سحقاً، كم هذا ممل!
لطالما حلمت وأنا صغير بالإبحار والسفر، ولكن لم يخطر ببالي أبداً كم يمكن أن يكون البقاء معلقاً بعرض البحر شيء غاية في الإملال. توقفت عن التفكير في الدقائق والساعات، أجوب سطح السفينة جيئة وذهابا حتى مل البحارة رؤيتي وأصابهم بعض من توتري. اللعنة، بل إن الأيام ذاتها تفقد معناها بهذا الشكل، ليس فقط الدقائق والساعات.
ولما كنت قد أوشكت على الإنتهاء من الكتب التي جلبتها معي، وبما أنه لا يسع الانسان أن يقرأ طوال النهار والليل (فأنا أجد صعوبة فال نوم أيضاً) فها أنذا جالس أفعل ما لم أفعله منذ حادثتي: اكتب، أدون، لا لشيءٍ إلا لإزاحة الوقت الجاثم كالجبل.
ماذا اكتب، ماذا اكتب، . . . اه، ساعدت البحارة اليوم على ظهر السفينة. كنت قد طلبت من عبدلله (ونصف بحارة هذه المركبة يدعون عبدلله) أن يعطيني شيئاً لأفعله، فجلس في اليوم التالي ساعة يعلمني خمس طرق مختلفة لعمل العقد من الحبال وطلب مني أن اتدرب عليها جميعاً وأجيد عقدها كأسرع ما يكون. وكنت ظننت أنه إخترع هذه الحيلة ليتخلص مني ويفرغ لعمله، ولكنه أكد لي بلهجة العاتب أن عقد العقد هو أول ما يجب على البحار اتقانه.
أه ه ه . . .
يؤلمني كل شبر من جسدي بعد مجهود البارحة. ولكني شاركت في العمل اليوم أيضاً، فالألم أحب إلي من الملل، ثم انني خجلت أن يظهر انني أجهدت من عمل ساعتين في حين يعمل البحارة طوال اليوم. ثمة عزاء ما في العمل البدني. وكأنه علاج لالام النفس واضطراباتها.
بعد ساعتين من الشد والعقد، ذهبت لاغتسل ثم قمت بزيارة غرفة قبطان المركبة (يسمونها قمرة لسبب ما) لندخن الأنبوب ونلعب الشطرنج ككل يوم في وقت الظهيرة.
شيء غريب هذا الأنبوب، لم أره قط قبل أنا أقابل القبطان زاهر. لكم هو صغير وعملي، ولشد ما هو مختلف عن الأرجيلة، كما أن التبغ الذي يستخدمه لحشوه على هيئة مسحوق مختلف في اللون والرائحة عن أي شيء رأيته من قبل. زعم أنه يأتي به من جزيرة قرب بلاد الروم، فعزمت على أن أخذ منه عينة لتحليلها حال رجوعنا الى بلادنا، إن رجعنا.
جلسنا ندخن التبغ عطري الرائحة ونلعب دور من الشطرنج، أطيله قدرما استطيع، فهو أحد أهم أحداث اليوم، ثم انني كنت استمتع بتعابير وجه القبطان المتذمر وهو يحاول الافلات من مصيدةتلو الأخرى.
"لا أعرف هل أحبك أم أكرهك أيها الأمير الصغير" قالها وهو ينفث الدخان
فأجبته ضاحكاً: "اكرهني إذاً ولكنني لست بأمير، صغير كان أو كبير"
قلتها ثم وضعت الوزير بحيث يستحيل على ملكه الفرار. لو أجلت هذه الحركة أكثر من ذلك لصار تلاعبي به واضحاً ومهيناً. تعلمت هذا من والدي، وقدكان الوحيد الذي يهزمني مذ كنت في العاشرة، وكان يهزمني سريعاً، بل كان يسحقني سحقاً، ولم يكن يسمح لي باللعب معه إلا مرة كل أسبوع. وكنت خلال هذا الأسبوع ابذل قصارى جهدي لأرقى بمستواي. كنت كذلك أرقب مجيء الضيوف الى منزلنا، متمنياً أن يواجه احدهم أبي، فاستطيع مراقبتهما. وكنت الحظ كم كان يطيل من الأدوار ويترفق بمنافسيه فاشتعل غيظاً. واجهته بذلك بعد أحد الأدوار التي كان يسحقني بها، فضحك بصوته الغليظ، وقال "بعض الرجال عقولهم أصغر من عقلك، لو انني انتصرت على وزير بيت المال في عشر خطوات لوجب علي أن اتخلى عن أي خطط تحتاج إلى تمويل حكومي، لكن إن أوهمته بأن كان في امكانه الفوز ، فلسوف ينتظر أقرب فرصة لمواجهتي ثانية، ولسوف يدعوني إلى بيته، ولسوف يستشيرني في مشاكله"
أخذ القبطان في جمع القطع العاجية "بل قد أصبحت أميراً على بحارتي، على الأقل يعاملونك كاميرهم" قالها وفي صوته نبرة حقد لا علاقة لها بخسارته فى الشطرنج "فيم اصرارك على العمل معهم كل يوم؟ ما لمثلك ولعملٍ كهذا؟"
شعرت بخطورة الموقف، ولعنت نفسي أن لم ألحظه من قبل "إنه الملل لا غير يا سيدي القائد، إن وافقت أن تعلمني مبادئ الملاحة، لكان أفضل لي، فقد مللت عقد الحبال على كل حال" قلت مترقباً ردة فعله، فليس من مصلحتي أن أخسر صداقته. للقبطان السلطة الأعلى على سفينته وباستطاعته أن يحبسني في غرفتي حتى نهاية الرحلة إن أراد، الأدهى أنه سيكون مصيباً في ذلك إن كان وجودي يهدد مكانته عند البحارة.
إنفرج وجهه وابتسم إبتسامة تفوق "لا تستطيع المكوث ساكنا، أليس كذلك؟ إنه أول شيء تتعلمه في البحر. إن أردت أن أعلمك عن الملاحة فعليك ألا تقوم بأي نشاط لثلاثة أيام." ثم قال مستدركاً "بالطبع لا يعد الشطرنج نشاطاً"
في الواقع كنت أحب القبطان، أو بالأحرى كان يثير اعجابي، فقد كان صلباً قوياً كشجر السنديان، وكان نشيطاً مليء بالحيوية برغم كونه في العقد السادس من عمره على أقل تقدير. كانت عيناه تلمعان بالشغف عندما يمسك بالدفة ويقذف الأوامر يمينا ويسارا بصوت جهوري، شغفة كان البحر وسفينته، وكان البحارة يهابونه حقاً، برغم انني لم أره يعاقب احدهم أبداً. كان في ذلك يذكرني بوالدي. لعل هذا كان عيبه الوحيد.
مكثت في غرفتي أغلب الأيام الثلاثة التالية، وإن أوجعتني نظرات خيبة الأمل في عيون البحارة، فكنت أتعلل بألم في ظهري. وفي اليوم التالي بعض دور الشطرنج -الذي تركته يفوز به- قال لي القائد "اليوم تمسك أنت الدفة، وتدخل عالم الإبحار تلميذاً، فقط اتمنى أن تحدث والدك حين نعود بأن اسطولنا بحاجة للتجديد والصيانة"
في الواقع زادت هذه الجملة من احترامي له، رجل أخر كان ليطلب مطلبا شخصيا. لم يكن بإمكانه أن يعرف كم المتني جملته على كل حال، وليس خطأه انني أكرة والدي ككرهي للمرض.
"أفضل من ذلك، إن اقنعتني سأحدث السلطان بشخصه" وعدته مخلصاً
لطالما حلمت وأنا صغير بالإبحار والسفر، ولكن لم يخطر ببالي أبداً كم يمكن أن يكون البقاء معلقاً بعرض البحر شيء غاية في الإملال. توقفت عن التفكير في الدقائق والساعات، أجوب سطح السفينة جيئة وذهابا حتى مل البحارة رؤيتي وأصابهم بعض من توتري. اللعنة، بل إن الأيام ذاتها تفقد معناها بهذا الشكل، ليس فقط الدقائق والساعات.
ولما كنت قد أوشكت على الإنتهاء من الكتب التي جلبتها معي، وبما أنه لا يسع الانسان أن يقرأ طوال النهار والليل (فأنا أجد صعوبة فال نوم أيضاً) فها أنذا جالس أفعل ما لم أفعله منذ حادثتي: اكتب، أدون، لا لشيءٍ إلا لإزاحة الوقت الجاثم كالجبل.
ماذا اكتب، ماذا اكتب، . . . اه، ساعدت البحارة اليوم على ظهر السفينة. كنت قد طلبت من عبدلله (ونصف بحارة هذه المركبة يدعون عبدلله) أن يعطيني شيئاً لأفعله، فجلس في اليوم التالي ساعة يعلمني خمس طرق مختلفة لعمل العقد من الحبال وطلب مني أن اتدرب عليها جميعاً وأجيد عقدها كأسرع ما يكون. وكنت ظننت أنه إخترع هذه الحيلة ليتخلص مني ويفرغ لعمله، ولكنه أكد لي بلهجة العاتب أن عقد العقد هو أول ما يجب على البحار اتقانه.
أه ه ه . . .
يؤلمني كل شبر من جسدي بعد مجهود البارحة. ولكني شاركت في العمل اليوم أيضاً، فالألم أحب إلي من الملل، ثم انني خجلت أن يظهر انني أجهدت من عمل ساعتين في حين يعمل البحارة طوال اليوم. ثمة عزاء ما في العمل البدني. وكأنه علاج لالام النفس واضطراباتها.
بعد ساعتين من الشد والعقد، ذهبت لاغتسل ثم قمت بزيارة غرفة قبطان المركبة (يسمونها قمرة لسبب ما) لندخن الأنبوب ونلعب الشطرنج ككل يوم في وقت الظهيرة.
شيء غريب هذا الأنبوب، لم أره قط قبل أنا أقابل القبطان زاهر. لكم هو صغير وعملي، ولشد ما هو مختلف عن الأرجيلة، كما أن التبغ الذي يستخدمه لحشوه على هيئة مسحوق مختلف في اللون والرائحة عن أي شيء رأيته من قبل. زعم أنه يأتي به من جزيرة قرب بلاد الروم، فعزمت على أن أخذ منه عينة لتحليلها حال رجوعنا الى بلادنا، إن رجعنا.
جلسنا ندخن التبغ عطري الرائحة ونلعب دور من الشطرنج، أطيله قدرما استطيع، فهو أحد أهم أحداث اليوم، ثم انني كنت استمتع بتعابير وجه القبطان المتذمر وهو يحاول الافلات من مصيدةتلو الأخرى.
"لا أعرف هل أحبك أم أكرهك أيها الأمير الصغير" قالها وهو ينفث الدخان
فأجبته ضاحكاً: "اكرهني إذاً ولكنني لست بأمير، صغير كان أو كبير"
قلتها ثم وضعت الوزير بحيث يستحيل على ملكه الفرار. لو أجلت هذه الحركة أكثر من ذلك لصار تلاعبي به واضحاً ومهيناً. تعلمت هذا من والدي، وقدكان الوحيد الذي يهزمني مذ كنت في العاشرة، وكان يهزمني سريعاً، بل كان يسحقني سحقاً، ولم يكن يسمح لي باللعب معه إلا مرة كل أسبوع. وكنت خلال هذا الأسبوع ابذل قصارى جهدي لأرقى بمستواي. كنت كذلك أرقب مجيء الضيوف الى منزلنا، متمنياً أن يواجه احدهم أبي، فاستطيع مراقبتهما. وكنت الحظ كم كان يطيل من الأدوار ويترفق بمنافسيه فاشتعل غيظاً. واجهته بذلك بعد أحد الأدوار التي كان يسحقني بها، فضحك بصوته الغليظ، وقال "بعض الرجال عقولهم أصغر من عقلك، لو انني انتصرت على وزير بيت المال في عشر خطوات لوجب علي أن اتخلى عن أي خطط تحتاج إلى تمويل حكومي، لكن إن أوهمته بأن كان في امكانه الفوز ، فلسوف ينتظر أقرب فرصة لمواجهتي ثانية، ولسوف يدعوني إلى بيته، ولسوف يستشيرني في مشاكله"
أخذ القبطان في جمع القطع العاجية "بل قد أصبحت أميراً على بحارتي، على الأقل يعاملونك كاميرهم" قالها وفي صوته نبرة حقد لا علاقة لها بخسارته فى الشطرنج "فيم اصرارك على العمل معهم كل يوم؟ ما لمثلك ولعملٍ كهذا؟"
شعرت بخطورة الموقف، ولعنت نفسي أن لم ألحظه من قبل "إنه الملل لا غير يا سيدي القائد، إن وافقت أن تعلمني مبادئ الملاحة، لكان أفضل لي، فقد مللت عقد الحبال على كل حال" قلت مترقباً ردة فعله، فليس من مصلحتي أن أخسر صداقته. للقبطان السلطة الأعلى على سفينته وباستطاعته أن يحبسني في غرفتي حتى نهاية الرحلة إن أراد، الأدهى أنه سيكون مصيباً في ذلك إن كان وجودي يهدد مكانته عند البحارة.
إنفرج وجهه وابتسم إبتسامة تفوق "لا تستطيع المكوث ساكنا، أليس كذلك؟ إنه أول شيء تتعلمه في البحر. إن أردت أن أعلمك عن الملاحة فعليك ألا تقوم بأي نشاط لثلاثة أيام." ثم قال مستدركاً "بالطبع لا يعد الشطرنج نشاطاً"
في الواقع كنت أحب القبطان، أو بالأحرى كان يثير اعجابي، فقد كان صلباً قوياً كشجر السنديان، وكان نشيطاً مليء بالحيوية برغم كونه في العقد السادس من عمره على أقل تقدير. كانت عيناه تلمعان بالشغف عندما يمسك بالدفة ويقذف الأوامر يمينا ويسارا بصوت جهوري، شغفة كان البحر وسفينته، وكان البحارة يهابونه حقاً، برغم انني لم أره يعاقب احدهم أبداً. كان في ذلك يذكرني بوالدي. لعل هذا كان عيبه الوحيد.
مكثت في غرفتي أغلب الأيام الثلاثة التالية، وإن أوجعتني نظرات خيبة الأمل في عيون البحارة، فكنت أتعلل بألم في ظهري. وفي اليوم التالي بعض دور الشطرنج -الذي تركته يفوز به- قال لي القائد "اليوم تمسك أنت الدفة، وتدخل عالم الإبحار تلميذاً، فقط اتمنى أن تحدث والدك حين نعود بأن اسطولنا بحاجة للتجديد والصيانة"
في الواقع زادت هذه الجملة من احترامي له، رجل أخر كان ليطلب مطلبا شخصيا. لم يكن بإمكانه أن يعرف كم المتني جملته على كل حال، وليس خطأه انني أكرة والدي ككرهي للمرض.
"أفضل من ذلك، إن اقنعتني سأحدث السلطان بشخصه" وعدته مخلصاً